فصل: تفسير الآيات (46- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (46- 48):

{وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)}
{قفينا} تشبيه كأن مجيء عيسى كان من قفاء مجيء النبيين وذهابهم، والضمير في {آثارهم} للنبيين المذكورين في قوله: {يحكم بها النبيون} [المائدة: 44] و{مصدقاً} حال مؤكدة و{التوراة} بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع، و{الإنجيل} اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ {الأنجيل} بفتح الهمزة، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران. و{الهدى} الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه. و{النور} ما فيه مما يستضاء به. و{مصدقاً} حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال. وقال مكي وغيره: {مصدقاً} معطوف على الأول.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني. وقرأ الناس {وهدىً وموعظةً} بالنصب. وذلك عطف على {مصدقاً} وقرأ الضحاك {وهدى وموعظةٌ} بالرفع وذلك متجه. وخص {المتقين} بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذك على غير المتقين عمى وحيرة.
وقرأ أبيّ بن كعي {وأن ليحكم} بزيادة أن. وقرأ حمزة وحده {ولِحكمَ} بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة {ولْيحكم} بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل. ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله. ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن، وقوله: {بالحق} يحتمل أن يريد مضمناً الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحاً لعباده، وقوله: {من الكتاب} يريد من الكتب المنزلة. فهو اسم جنس، واختلفت عبارة المفسرين في معنى {مهيمن}. فقال ابن عباس: {مهيمناً} شاهداً. وقال أيضاً مؤتمناً.
وقال ابن زيد: معناه مصدقاً، وقال الحسن بن أبي الحسن أميناً، وحكى الزجاج رقيباً ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ولأن يدخل فيه ما ليس منه والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين، و{مهيمن} بناء اسم فاعل، قال أبو عبيدة: ولم يجئ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف. وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر. وذكر أبو القاسم الزجّاج في شرحه لصدر أدب الكتاب ومبيقر. يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق، وبيقر أيضاً لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها الصبيان، وقال مجاهد قوله تعالى: {ومهيمناً عليه} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم هو مؤتمن على القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وغلط الطبري رحمه الله في هذه الألفاظ على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس {مهيمِناً} بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن {ومهيمَناً} عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول. وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله: {مصدقاً} وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم و{عليه} في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله. هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله: {مهيمن} أصله {مويمن} بني من أمين، وأبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته، قال الزجاج: وهذا حسن على طريق العربية، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى {مهيمن} مؤتمن، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلباً فقال: إن ما قال ابن قتيبة رديء، وقال هذا باطل، والوثوب على القرآن شديد وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب، انتهى كلام ثعلب.
قال القاضي أبو محمد: ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائماً عليه أميناً، ويحتمل أن يكون {مصدقاً ومهيمناً} حالين من الكاف في {إليك}. ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي. قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله: {أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الجمهور: إنه ليس بنسخ، وإن المعنى فإن اخترت ان تحكم {فاحكم بينهم بما أنزل الله} ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس، والنفس أمّارة بالسوء فهواها مرد لا محالة، وحسن هنا دخول عن في قوله: {عما جاءك من الحق} لما كان الكلام بمعنى لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك.
واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين: المعنى {لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً} أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك..
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عدداً من الأنبياء شرائعهم مختلفة، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} قال القاضي أبو محمد: والتاويل الأول عليه الناس. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {لكل جعلنا منكم} الأمم كما قدمنا. ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لاسيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيراً فمن ذلك قول الشاعر:
وفي الشرائع من جلان مقتنص ** بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب

أراد في الطريق إلى المياه، ومنه الشارع وهي سكك المدن، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب، والمنهاج أيضاً الطريق، ومنه قول الشاعر:
ومن يك في شك فهذا نهج ** ماء رواه وطريق نهج

أراد واضحاً والمنهاج بناء مبالغة في ذلك، وقال ابن عباس وغيره: {شرعة ومنهاجاً} معناه سبيلاً وسنة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد، والقراء على {شِرعة} بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب {شَرعة} بفتح الشين، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، كذا قال ابن جريج وغيره، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله: {إلى الله مرجعكم جميعاً} والمعنى فالبدار البدار، وقوله تعالى: {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار وإيقاع، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.

.تفسير الآيات (49- 50):

{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)}
{وأن احكم} معطوف على {الكتاب} في قوله: {وأنزلنا إليك الكتاب} [المائدة: 48]، وقال مكي: وهو معطوف على {الحق} في قوله: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق} [المائدة: 48]، والوجهان حسنان، ويقرأ بضم النون من {أنُ احكم} مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله: {أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] وقد تقدم ذكر ذلك، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر: فهوى رسول الله رأي أبي بكر، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك؟ قال: حق وافق هوى، والهوى مقصور ووزنه فعل، ويجمع على أهواء، والهواء ممدود ويجمع على أهوية، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم {أن يفتنوه} أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مراراً احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك، وقوله تعالى: {فإن تولوا} قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر، تقديره لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله: {الفاسقون}، قوله تعالى: {فاعلم} الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان: نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا، فلذلك خصص البعض دون الكل، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة، وقوله تعالى: {وإن كثيراً من الناس لفاسقون} إشارة إليهم لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد.
واختلف القراء في قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون} فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج {أفحكُم} برفع الميم، قال ابن مجاهد: وهي خطأ، قال أبو الفتح: ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه.
وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي ** عليَّ ذنباً كلُّه لم اصنع

برفع كلّ.
قال القاضي أبو محمد: وهكذا الرواية، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب، ولو نصب كل لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح، التقدير يبغونه ولم أصنع، وإنما يحذف الضمير كثيراً من الصلة كقوله تعالى: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} [الفرقان: 41]، وكما تقول مررت بالذي أكرمت، ويحذف أقل من ذلك من الصفة، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم، ويتجه بيته بوجهين: أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى: {أفحكم} والثاني أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة، وذلك حرف الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ {أفحكمُ} بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولاعوض من الضمير، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون فلا تجعل يبغو خبراً بل تجعله صفة خبر يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ومثله قول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

وقرأ سليمان بن مهران {أفحَكَمَ} بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها، وله نظائر.
وقال القاضي أبو محمد: فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير {أفحكم الجاهلية}، وقرأ ابن عامر {تبغون} بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة {يبغون} بالياء من تحت، و{يبغون} معناه يطلبون ويريدون، وقوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً} تقرير أي لا أحد أحسن منه حكماً تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله: {لقوم} من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.